يحتل سؤال الهوية الشائك مساحة كبيرة في رواية `سارق النوم: غريب حيفاوي` (دار الجمل) للكاتبة الفلسطينية المقيمة في برلين، ابتسام عازم. وتتبلور إشكاليات الهوية في العنوان الفرعي `غريب حيفاوي`، والذي يطابق اسم الشخصية الرئيسية التي تسرد أحداث الرواية، والذي يحمل دلالات وأبعاداً رمزية يتردد صداها في زوايا النص وتفاصيله.
فبينما تحيلنا مفردة `حيفاوي` إلى ارتباط راسخ بالمكان والأرض والجغرافيا، فإن الأسم الأول، `غريب، يذكرنا باغتراب الفرد ونفيه داخل الوطن الذي يعيش فيه على الهامش، لأن المتن تحتله دولة قامت وتقوم على أنقاض غريب وأهله. وهكذا نجد غريب يبحث مطولاً عن معاني اسم `فلسطين` وتاريخها ونجده مهووساً بالأراشيف، وبالتاريخ كسجل وبالأحداث التي تلقي بظلالها على البشر وحيواتهم. تحضر النكسة مبكراً في الرواية، خصوصاً وأن سنة وقوعها هي تلك التي يولد فيها السارد. لكنها، أي النكبة، بكل معانيها وتبعاتها المعقدة، هي ما يؤطر السرد وأحداثه. والنكبة هنا ليست حدثاً أحادي البعد، بل حالة مستمرة متفاقمة، وعلاقات قوة وهيمنة تترسخ كل يوم وتعيد إنتاج نفسها وفق المعادلة الاستعمارية التقليدية التي كان فرانز فانون قد حللها منذ عقود، خصوصاً فيما يتعلق بتأثير الخطاب الاستعماري على ثقافة المستعمَر وهويته (بفتح الميم الثانية).
ومع أن الهاجس السياسي واضح وقوي لدى الكاتبة إلا أن ما تتتميز به الرواية هو أن هذا الهاجس لا يثقل السرد أبداً، لأنه لا يقع في مطب المباشرة أو التقريرية، بل يجئ طبيعياً، ومرتبطاً بشكل خفي بجمال السرد وشعريته. فبالرغم من وعي غريب بهويته وانتمائه، إلا أنه ليس شخصية نمطية أو تقليدية، بل شخصية مركبة وغنية بصدقها وبتعقيداتها. فتورطه في العمل السياسي لم يكن مبنياً على تحزب أو انحيازاً لأيديولوجيا، خصوصاً أن الأب كان يحذر أبناءه من التورط في السياسة، بل جاء نزولاً عند رغبة حبيبته همسة. فيخرجان ليتضامنا مع أهل غزة والضفة بالهتاف ورمي الحجارة. وبمقابل هذا التضامن مع فلسطينيي الضفة والقطاع، فإن علاقة غريب بشاهين، الصبي الذي سجن أبوه والذي يضطر إلى بيع الأقلام للتكسب، تصور ببلاغة الاغتراب المضاعف لفلسطينيي الضفة من الطبقة العاملة الذين يجبرون على العمل في الداخل. عندما يتحدث شاهين بالعبرية مع غريب الذي يظنه زبوناً إسرائيلياً، يسارع غريب قائلاً `شاهين ليش بتحكي معي بالعبري؟ أنا فلسطيني مثلك من الشمال. ويرى غريب نفسه في شاهين إذ يتذكر كيف أجبر هو أيضاً على بيع الأ`وكادو عندما كان صبياً وكان يخاف انكشاف ذلك أمام زملائه في المدرسة. يعي غريب حدود الطبقة التي يصعب، له ولغيره، عبورها، والسقف الطبقي الذي يكسر الظهور ويحني الرقاب. لكنه يعي أيضاً وحشية الدولة ومؤسساتها التي تراقبه وتمنعه أن يكون مواطناً كامل الحقوق، كما يريد ويفترض أن يكون. ينخرط غريب في عمل سياسي ويصبح عضواً في خلية توزع مناشير ويؤدي هذا به في نهاية الأمر إلى الإعتقال والتعذيب، ثم السجن لسنة ونصف بعد محاكمة رسخت الشعور بالذل والمهانة لديه.
لكن الحرية خارج السجن تظل حرية ناقصة مرة الطعم، فالقدس `فقدت قدسيتها` و`تل أبيب: تبدو دائماً مصطنعة، متبرجة، تعيش على أنقاض يافا، بل ابتلعت يافا تاركة أياها تحتضر`. وحتى عندما يتوق غريب للسفر، فإنه لا يستطيع أن يزور بيروت أو دمشق، لأنه محروم من التواصل مع امتداده الجغرافي والثقافي. فيروي عطش السفر بالذهاب إلى قبرص على جواز سفر `يتعكز على أنقاضه على حد تعبيره. والمطار، كحيز عام ومؤسسة، هو حقل خصب تبرز فيه تناقضات الهوية وإشكاليات الانتماء بشكل صارخ، خصوصاً في دولة استيطانية-استعمارية كإسرائيل. وعندما لا يعامله موظفو المطار كما يعاملون الفلسطينيين عادة بالإفراط في التفتيش والتأخير والإهانة، يرفض غريب السفر. يعود أدراجه ويدرك حينها بأن هذه الممارسات `كالتفتيش والإهانة والشك بي أصبحت جزء لا يتجزأ مني. وكأنني لا أستطيع أن أعيش بدونها أنا الذي كنت أطالب دائماً برفعها`. تسلل هذه الممارسات إلى اللاوعي وتمثلها من قبل غريب لا يعني بالضرورة اضمحلال الهوية أو ضياعها، بل بقاء الذات في وجود مأسوي كـ(لا) مواطن يعيش في دولة ومجتمع مهيمن يستمد شرعيته من إلغاء الآخر الذي يهدد وجوده الأسطورة القومية. فيقول غريب: `بلدي نعم! مطاري لا! ولكن ليس حكومتي وليس علمي وليس رموزي أو جوازي وليس ليس ليس. إنه وجود قائم، في أحد وجوهه، على النفي الفردي والجماعي. وهنا تحضر الذاكرة كساحة صراع حقيقية. `لا أحب تذكر أسماء الشوارع، فلكل شارع اسمان، اسم مكتوب واسم يعارك الذاكرة. أسماؤهم وأسماؤنا`.
وخوف المستَعمَر الطبيعي في صراعه مع المستعمِر هو أن يندثر وتختفي ثقافته ليصبح هو وهي أطلالاً. كان الكابوس الذي يعاود غريب هو تلقيه دعوة لحضور افتتاح المتحف القومي الذي أقامته الدولة لترسيخ روايتها هي عن المكان وماضيه. وفي واحد من أجمل فصول هذه الرواية الجميلة وأكثرها إيلاماً يجد غريب أمه وقد أصبحت عينة في المتحف يتفرج عليها الزوار والسياح. يخرجه الحراس بالقوة بعد أن يصرخ. وفي الليل يتسلل إلى المتحف ويحرر أمه من سجن ذاكرة الآخر. فيخرج جسدها ويدفنها في الأرض التي أنجبتها كما يليق بها.
بالإضافة إلى موضوع الهوية الشائك والصراع مع الآخر والدولة، يحسب للكاتبة تمكنها من تقمص صوت السارد المذكر، الذي يروي حكاياته في فصول تحمل عناوين مستقلة. وقد نفهم انحياز الكاتبة لبنية غير تقليدية أكثر سيولة، تنجح في خدمة النص وتبقي على تماسكه عموماً باستثناء بعض المواضع التي يتلكأ فيها السرد.
بالرغم من أن الكاتبة تعيش في برلين حيث تعمل كصحفية، وقد تركت فلسطين منذ عقد من الزمن، إلا أن روايتها مسكونة بهواجس فلسطين الداخل وهي جزء من النسيج الأدبي الواعد الذي يزدهر في فلسطين. ويتكئ على منجز غني وذاكرة أدبية شامخة تتحدى الجيل الجديد وتشجعه في ذات الوقت. لكن من حق هذا الجيل الجديد أن يعتب على النقاد العرب الذين لا يحسنون الإنصات إلى أصوات الداخل والالتفات إليها، باستثناء المكرّس والمعروف منها.
`سارق النوم: غريب حيفاوي نص جميل ومختلف، مكتوب بلغة شعرية شفافة، يفتح نافذة أخرى تطل على الداخل الفلسطيني. رواية متميزة وجريئة في طرحها وجديرة بالقراءة، ننتظر من كاتبتها المزيد.
[عن جريدة "القدس العربي" اللندنية]